أعداد البوابةالرئيسيةالصعيد الانمقالات وأراء

د. حماد الرمحي يكتب : ديك تشيني.. مهندس خصخصة الحروب الذي حوّل الدم إلى «بيزنس عالمي» لا يعرف التوقف

د. حماد الرمحي يكتب : «ديك تشيني»… مهندس خصخصة الحروب وصناعة الموت الممتدّة عبر العالم**

في اللحظة التي أُغلِق فيها النعش على جسد رجلٍ واحد، انفتحت في ذاكرة الشرق الأوسط آلاف النعوش التي لم تُغلق يومًا. رحل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ونائب الرئيس جورج بوش الابن، ديك تشيني، عن 84 عامًا، لكنّ إرثه لم يرحل؛ فملفات الحروب التي أشعلها، والدمار الذي هندسه في مختبرات القرار الأمريكي، والخراب الذي تحوّل إلى «صناعة»، لا تزال حاضرة في وجدان الشعوب التي دفعت — وما زالت تدفع — أثمانًا باهظة من دمائها وحياة أوطانها.

لقد مات تشيني جسدًا، لكنّ «النموذج» الذي بناه، والمبني على تحويل الحرب إلى مشروع ربح، وصناعة العنف إلى سلسلة إمداد تجارية، لم يمت. فكلّ مخيم لجوء، وكلّ مدينة دُمِّرت، وكلّ طفل يولد في خيمة مهترئة، ليس مجرد مأساة إنسانية، بل صفحة إضافية في كتاب «خصخصة الحروب» الذي يُعدّ ديك تشيني أحد أبرز مهندسيه في التاريخ الحديث.

أولًا: جذور الفكرة… حين تتحوّل الحرب إلى استثمار

لفهم ما فعله ديك تشيني، لا بد من فهم «فلسفة خصخصة الحرب». فقبل تشيني، كان خوض الحروب يتم عبر جيوش وطنية، وتحت منظومة عسكرية واضحة المعايير والانضباط والمحاسبة. لكن الرجل القادم من نبراسكا صاغ نظرية جديدة:

الحرب ليست واجبًا قوميًّا… بل مشروعًا اقتصاديًّا يمكن أن تديره شركات خاصة.

من هذه الفكرة انطلقت صناعة ضخمة قوامها «خصخصة العمليات العسكرية»، ونقل جزء كبير من مهام الجيوش إلى شركات أمنية خاصة تعمل بمنطق المقاول لا بمنطق الجندي.

وهكذا وُلدت شركات مثل «بلاك ووتر» و«داينكورب» و«KBR»، وبدأت مرحلة جديدة من الصراعات، لا تحكمها الأخلاق ولا القوانين العسكرية، بل تحكمها فواتير نهاية الشهر، وتُدار حساباتها بأوراق العقود لا بأوامر القيادة.

ولأن المقاول لا يُحاسَب على الخسائر البشرية، ولأن الجندي المرتزق لا يحمل قضية، فقد تحوّلت الحروب إلى مساحة انفلات كامل: قتلٌ دون محاسبة، وانتهاكات بلا رقيب، وقرارات لا تخضع للرقابة البرلمانية، لأنّ القتلة ليسوا جنودًا رسميين، بل «متعاقدين».

ثانيًا: صناعة الدم والنار… إرث ديك تشيني في الشرق الأوسط

ارتبط اسم تشيني بمرحلتين مفصليّتين في تاريخ الشرق الأوسط:

  1. حرب الخليج الأولى (1991) عندما كان وزيرًا للدفاع.
  2. غزو العراق 2003 عندما كان نائبًا للرئيس وصاحب النفوذ الأكبر داخل إدارة بوش.

وخلال هاتين المرحلتين تبلورت فلسفة «البيزنس العسكري» التي اعتبرها تشيني حجر الأساس لإدارة الحروب الحديثة. وقد شملت الفلسفة ثلاثة مستويات:

1. خلق بؤر التوتر وتعظيم الخطر

إقناع الرأي العام الأمريكي بأن «الخطر داهم»، وأن «العدو» يملك أسلحة دمار شامل، وأن الحرب «ضرورة» لحماية العالم.

2. إدارة الحرب عبر الشركات

لم يعد الجيش وحده هو من يقاتل.

دخلت الشركات الخاصة لتقدم كل شيء:

من طهو الطعام وتنظيف الملابس، إلى بناء القواعد العسكرية، إلى حماية الدبلوماسيين، إلى خوض الاشتباكات المباشرة.

3. إعادة إعمار ما دُمّر… باحتكار الشركات نفسها

كانت الشركات التي تشارك في تدمير البنية التحتية، هي نفسها التي تفوز بعقود إعادة الإعمار بعد الحرب.

وهكذا اكتملت الدورة الاقتصادية للحرب: تدمير → عقود إعادة إعمار → نفوذ سياسي → نفط وموارد → تدوير الحرب من جديد.

ثالثًا: «هاليبرتون»… مصنع الإمبراطورية الخاصة لتشيني

بعد خروجه من البنتاغون، لم يغادر تشيني عالم القوة.

بل انتقل إلى رئاسة واحدة من أكبر الشركات الأمريكية: هاليبرتون، عملاق خدمات النفط.

وحين عاد إلى البيت الأبيض كنائب للرئيس عام 2000، كانت «هاليبرتون» حاضرة في كل زاوية:

  • من عقود النفط في الشرق الأوسط؛
  • إلى إدارة الإمداد العسكري؛
  • إلى بناء القواعد؛
  • إلى حجز حصّةٍ ضخمة من عقود إعادة إعمار العراق.

أهم عقود «هاليبرتون» في العراق:

  • عقد تشغيل البنية التحتية النفطية بقيمة قاربت 7 مليارات دولار.
  • عقود لوجستية متنوعة تجاوزت قيمتها 10 مليارات دولار خلال السنوات الأولى من الاحتلال.
  • بناء معسكرات، قواعد، مطارات، خطوط إمداد، ومرافق عسكرية.

وهكذا صار تشيني — بطريقة مباشرة أو غير مباشرة — جزءًا من شبكة مالية ضخمة تربط بين البيت الأبيض وشركات السلاح والنفط والخدمات الأمنية.

رابعًا: 11 سبتمبر… اللحظة الذهبية في مشروع تشيني

قدّم هجوم 11 سبتمبر فرصة تاريخية غير مسبوقة.

فخلال ساعات قليلة تحولت أمريكا إلى دولة في حالة صدمة، وكانت مستعدة لقبول أي تفسير… وأي حرب.

مع المحافظين الجدد، صاغ تشيني عقيدة «الحرب الوقائية»؛ أي ضرب الأعداء المحتملين قبل أن يشكّلوا تهديدًا.

ووجدت هذه العقيدة ذروتها في العراق.

لم تكن الحرب على العراق فقط قرارًا سياسيًا، بل كانت — في نظر تشيني — مشروعًا اقتصاديًا ضخمًا، وفرصة ذهبية لإطلاق أكبر تجربة عملية في «خصخصة الحروب» في العصر الحديث.

خامسًا: العراق… الموقع التجريبي الأكبر لصناعة الحروب الخاصة

تحوّل العراق إلى سوق مفتوحة للشركات العسكرية الخاصة.

وبلغ عدد المرتزقة الذين عملوا لحساب وزارة الدفاع الأمريكية في أوج الحرب 155 ألف متعاقد، وهو رقم مقارب لعدد الجنود الأمريكيين أنفسهم.

أهم الشركات التي سيطرت على عقود الحرب:

1. KBR (ذراع هاليبرتون)

  • بناء المعسكرات والقواعد.
  • خدمات الطعام والوقود والغسيل.
  • تشغيل خطوط الإمداد.
  • إدارة «الحياة اليومية» للجيش الأمريكي.

2. بلاك ووتر

الذراع القتالية الأخطر…

مارست عمليات قتل ميداني، أشهرها «مجزرة ساحة النسور» في بغداد، ولم تخضع لرقابة أو محاسبة.

3. بيكتل

عقود إعادة إعمار شملت:

  • الكهرباء
  • المياه
  • الطرق
  • المطارات
    بقيمة قاربت 3 مليارات دولار.

4. داينكورب

تدريب الشرطة والجيش، وحماية قيادات سياسية، وخاصة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي.

5. شركات عسكرية أخرى مثل:

  • MPRI
  • BDM International
  • Armor Holdings
  • Cubic Corp
  • SAIC
  • DFA
  • International Charter

تمتد خدماتها من التدريب والاستشارات، إلى التسليح، إلى بناء القدرات الأمنية، إلى إدارة العمليات.

سادسًا: صناعة المرتزقة… نموذج عالمي ينتشر كالوباء

اليوم، وبعد رحيل تشيني، لم تعد خصخصة الحروب مشروعًا أمريكيًا فحسب.

لقد تحولت إلى صناعة عالمية تُدار على الطريقة نفسها:

  • مرتزقة يقاتلون في أوكرانيا
  • شركات أمنية تحرس النفط في العراق والخليج وأفريقيا
  • شركات استشارات تعيد تشكيل جيوش في الساحل الأفريقي
  • مجموعات مسلحة تعمل كـ«شركات» في ليبيا والسودان وسوريا

لقد خرج النموذج من المختبر الأمريكي، وصار «فيروسًا عالميًا» ينتقل من منطقة لأخرى، ويتكاثر عند أي صراع أو ثروة أو حدود رخوة.

سابعًا: كيف نجح تشيني في “تسويق الموت”؟

نجاح تشيني لم يكن عسكريًا فقط، بل كان سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا في آن واحد.

فقد استطاع عبر شبكة نفوذه:

  • تحويل الخوف إلى سلعة.
  • تحويل الأمن إلى خدمة تُشترى.
  • تحويل الحرب إلى مشروع استثماري.
  • تحويل المرتزقة إلى «موظفين».
  • وتحويل آلام الشعوب إلى «أرقام» داخل تقارير مالية.

لقد صنع منظومة كاملة لا تتغذى إلا على الحرب، ولا تربح إلا من الدمار.

ثامنًا: شعوب لا تنسى… والذاكرة التي لم يستطع تشيني خصخصتها

رغم كل شيء، فشل تشيني في أمر واحد:

شراء ذاكرة الشعوب.

ذاكرة الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن،

وذكريات الأطفال الذين كبروا على أصوات القصف،

وحكايات المدن التي تحولت إلى ركام،

ومقابر الذين قُتلوا بلا ذنب…

هذه الذاكرة لا يمكن دفنها.

إنها «محكمة التاريخ»، وهي أشدّ قسوة من أي لجنة تحقيق أو تقرير رقابي.

وقد يأتي يوم — ولو بعد عقود — تُحاسب فيه الأجيال الجديدة كل من شارك في تحويل أوطان الناس إلى مشاريع استثمارية.

خاتمة: حين يتحول الغضب إلى وعي… ويصبح الوعي بداية العدالة

ربما يكون رحيل ديك تشيني مناسبة لإعادة قراءة مرحلة كاملة من تاريخ المنطقة والعالم.

مرحلةٌ تحوّلت فيها الحروب إلى شركات، والعنف إلى صناعة، والموت إلى تجارة، والخراب إلى أرقام في دفاتر محاسبية.

لكن الوعي بهذه الحقائق هو الخطوة الأولى نحو العدالة.

فحين تدرك الشعوب أن دماءها حُوّلت إلى صفقات، وأن حروبها أصبحت مشاريع للربح، يبدأ الطريق نحو استعادة الكرامة.

وإذا كان تشيني قد نجح في صناعة الموت، فإن الشعوب — بذاكرتها ووعيها — قادرة على صناعة الحياة، وعلى حماية المستقبل من تكرار مآسي الماضي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى